كتاب: تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



وجعل سبحانه البشارة المطلقة لعباده، فقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [39: 17، 18] وجعل الأمن المطلق لهم، فقال تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ} [43: 68، 69] وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة، وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به. فقال: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} [15: 42] وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [16: 99، 100].
وجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إحسان العبودية على مراتب الدين، وهو الإحسان.
فقال في حديث جبريل- وقد سأله عن الإحسان-: «أن تعبد اللّه كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
فصل في لزوم {إياك نعبد} لكل عبد إلى الموت:
قال اللّه تعالى لرسوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [15: 99] وقال أهل النار: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ} [74: 46، 47] واليقين هاهنا: هو الموت بإجماع أهل التفسير. وفي الصحيح، في قصة موت عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه» أي الموت وما فيه. فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان من كان يعبد؟ وما يقول في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ ويلتمسان منه الجواب.
وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو اللّه الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا.
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه التعبد فهو زنديق، كافر باللّه ورسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر باللّه، والانسلاخ من دينه، وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم. والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولى العلم: أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته.
فصل في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة:
العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم للّه، برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. فهذه عبودية القهر والملك.
قال تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [19: 88- 93] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ} [25: 17] فسماهم عباده مع ضلالهم، لكن تسمية مقيدة بالإشارة، وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني، كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه.
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [39: 46] وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} [40: 31] {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} [40: 48] فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر.
قال تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [43: 68] وقال: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [39: 17، 18] وقال: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} [25: 63، 64] وقال تعالى عن إبليس: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [15: 40] فقال تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [15: 40: 41].
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته: هم عبيد إلهيته.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء.
وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية: فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه: إما منكرا. كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} والثاني: معرفا باللام كقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} [40: 31] {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} [40: 48].
الثالث: مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ}.
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده. فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر. كقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [39: 46].
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم. كقوله: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [39: 53].
وقد يقال: إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه، واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة.
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة: لأن أصل معنى اللفظة: الذل والخضوع. يقال: (طريق معبد) إذا كان مذللا بوطء الأقدام، وفلان عبّده الحب إذا ذلله، لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا، وانقيادا لأمره ونهيه، وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة: انقسام القنوت إلى خاص وعام، والسجود كذلك.
قال تعالى في القنوت الخاص: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [39: 9] وقال في حق مريم: {وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} [66: 12] وهو كثير في القرآن.
وقال في القنوت العام: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} [2: 116] أي خاضعون أذلاء.
وقال في السجود الخاص: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [40: 60] وقال: {إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا} [19: 58] وهو كثير في القرآن.
وقال في السجود العام: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} [13: 15].
ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [22: 18] فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل 16: 249 وهو سجود الذل والقهر والخضوع. فكل أحد خاضع لربوبيته، ذليل لعزته. مقهور تحت سلطانه تعالى.
فصل في مراتب {إياك نعبد} علما وعملا:
للعبودية مراتب، بحسب العلم والعمل. فأما مراتبها العلمية فمرتبتان:
إحداهما: العلم باللّه. والثانية: العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان. إحداهما: دينه الأمر الشرعي. وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين.
فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم: قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساو الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة، ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها إطاعات وقربات، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا اللّه.
فصل:
ورحى العبودية على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح.
وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان، والجوارح. فواجب القلب: منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه.
فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، والنية في العبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان.
إحداهما: تمييز العبادة عن العادة.
والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق. والفرق بينه وبين الإخلاص: أن للعبد مطلوبا وطلبا، فالإخلاص: توحيد مطلوبه. والصدق: توحيد طلبه.
فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسما. والصدق: أن لا يكون الطلب منقسما: فالصدق بذل الجهد، والإخلاص: إفراد المطلوب واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية. ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضى له. وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان، واجب مستحق. وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكمال مستحب. وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر اللّه الصبر في تسعين موضعا من القرآن، أو بضعا وتسعين، وله طرفان أيضا: واجب مستحق، وكمال مستحب.
ثم ذكر القسم الواجب المختلف فيه- إلى أن قال: والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء- وهو القلب- قائما بعبوديته للّه هو ورعيته وأما المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر ومعصية. فالكفر كالشك، والنفاق والشرك، وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة اللّه، واليأس من روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم اللّه من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر، وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها.
فوظيفة {إياك نعبد} على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد. وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها، وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر، بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك: كفر، وشهوة البدعة: فسق، وشهوة الكبائر: معصية، فإن تركها للّه مع قدرته عليها أثيب. وإن تركها عجزا عن بذله مقدورة في تحصيلها: استحق عقوبة الفاعل، لتنزله منزلته في أحكام الثواب والعقاب، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع، ولهذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل يا رسول اللّه، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
فنزله منزلة القاتل، لحرصه في الإثم دون الحكم، وله نظائر كثيرة في الثواب والقلب.
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
فصل:
وأما عبوديات اللسان الخمس: فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن. وهو ما يتوقف صحة صلاته عليه، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر اللّه بها ورسوله، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود، وأمر بقول: ربنا ولك الحمد بعد الاعتدال الواجبة بالتشهد، وأمر بالتكبير.